مقدمة

منذ بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا في أواخر سبتمبر 2015، وثّقت منظمات حقوقية وإنسانية سلسلة من المجازر والانتهاكات التي ارتكبها سلاح الجو الروسي ضد المدنيين والبنية التحتية المدنية. استهدفت الغارات الروسية مستشفيات ومدارس وأسواقًا بشكل متكرر، ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين، بينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال (المصدر).

في هذا التحقيق، نستعرض أبرز هذه المجازر وفق تقارير دولية وشهادات ناجين، ونحلل الدور المحوري الذي لعبته قاعدة حميميم الروسية في دعم ضباط نظام الأسد وحمايتهم حتى بعد سقوط النظام. كما نناقش مواقف السوريين الرافضة لأي دور روسي مستقبلي في بلادهم، ونقيّم المخاطر السياسية التي قد تواجهها الحكومة السورية المؤقتة إن قبلت باستمرار النفوذ الروسي دون محاسبة مجرمي الحرب.

أولًا: الغارات الروسية واستهداف المدنيين

مع تصاعد التدخل الروسي، ارتفعت حصيلة الضحايا المدنيين بشكل حاد نتيجة القصف الجوي. وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR)، قتلت القوات الروسية قرابة 7,000 مدني سوري منذ 2015 حتى نهاية 2024، حوالي 44% منهم من النساء والأطفال (المصدر). كما ارتكبت القوات الروسية ما لا يقل عن 362 مجزرة خلال هذه الفترة.

تركز القصف الروسي بشكل ممنهج على المراكز الحيوية المدنية: تم توثيق 1,251 هجومًا على منشآت مدنية حيوية شملت 224 مدرسة و209 منشآت طبية و61 سوقًا. هذه الأرقام تعكس استراتيجية واضحة باستهداف مقومات الحياة اليومية للسكان في مناطق سيطرة المعارضة. في حلب مثلًا، خلُص تحقيق لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن التحالف الروسي-السوري ارتكب جرائم حرب خلال حملة القصف المكثف لأحياء حلب الشرقية في سبتمبر وأكتوبر 2016، حيث استخدمت القنابل العنقودية والأسلحة الحارقة على مناطق سكنية مكتظة، حتى المرافق الطبية لم تسلم (المصدر).

في مايو 2019، دمّر قصف جوي روسي مستشفى قرب بلدة كفرنبل، وذلك بحسب تحقيق آخر لـ هيومن رايتس ووتش (المصدر). وبعده بشهر، في يونيو 2019، ضرب تحالف روسي-سوري سوقًا شعبية في مدينة معرة النعمان، محدثًا مجزرة مروعة (المصدر). وفي إحدى أعنف الهجمات، قصفت طائرة روسية سوقًا مكتظة يوم 22 يوليو 2019، ما أدى إلى مقتل 43 مدنيًا وإصابة 75 آخرين (المصدر).

ثانيًا: قاعدة حميميم – حصن عسكري وملاذ لفلول النظام

احتلت قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية مكانة محورية في العمليات الروسية بسوريا منذ 2015، حيث انطلقت منها المقاتلات والمروحيات التي نفذت حملة القصف المكثفة. ومع نهاية 2024 وسقوط نظام بشار الأسد عسكريًا، برز دور جديد لحميميم كـ ملاذ آمن لفلول النظام الهاربين من المحاسبة أو انتقام الأهالي.

خلال أحداث الساحل السوري الدامية بعد سقوط النظام، احتمى آلاف السوريين في قاعدة حميميم هربًا من موجة العنف الطائفي التي اجتاحت المنطقة. أعلنت الخارجية الروسية في مارس 2025 أن نحو 9,000 شخص لجأوا إلى القاعدة الروسية طلبًا للحماية من الاقتتال الدائر (المصدر).

وفي تطور لافت، تحدثت تقارير إعلامية عن قيام روسيا فور سقوط دمشق بإجلاء ضباط الصف الأول في جيش الأسد إلى خارج سوريا عبر حميميم، ربما إلى قواعد روسية في شمال إفريقيا، حفاظًا عليهم من الاعتقال أو الانتقام (المصدر).

ثالثًا: الموقف الشعبي السوري واعتبارات الحكومة المؤقتة

بعد سقوط نظام بشار الأسد أواخر 2024، بات الشعب السوري يتطلع لمستقبل يخلو من الهيمنة الروسية. فروسيا بالنسبة للسوريين ليست مجرد حليف خارجي دعم النظام، بل طرف قاتل شارك في قمع الثورة وارتكب فظائع بحق المدنيين.

أظهر استطلاع لمركز جسور للأبحاث أن كثيرًا من السوريين يحلمون بمستقبل لا مكان فيه لروسيا على أراضيهم (المصدر). هذا الشعور مفهوم في ضوء الدور الروسي في إطالة أمد معاناة السوريين، إذ حصلت موسكو على قواعد عسكرية ونفوذ سياسي واقتصادي مقابل دعمها لنظام الأسد (المصدر).

لكن الحكومة السورية المؤقتة تجد نفسها في معضلة سياسية، حيث صرّحت قياداتها بانفتاحها على مواصلة التعاون مع موسكو في المرحلة الانتقالية، بهدف تجنب خلق عداوة مباشرة مع قوة دولية وعضو دائم بمجلس الأمن، وهو ما قوبل بانتقادات حادة من الحاضنة الثورية (المصدر).

خلاصة

يوثق هذا التحقيق سجلًا حافلًا بالمجازر التي نفذتها روسيا في سوريا منذ 2015: من قصف المستشفيات والمدارس والأسواق بلا تمييز، إلى حماية فلول النظام المتورطين في دماء السوريين داخل قاعدة حميميم.

ورغم سقوط نظام الأسد، لا تزال تبعات التدخل الروسي تلقي بظلالها الكثيفة على المشهد السوري. فروسيا التي ساهمت في صنع المأساة تحاول اليوم إعادة تموضعها وضمان مصالحها، بينما السوريون يرفضون أي وصاية روسية على مستقبلهم (المصدر).

المحاسبة والعدالة الانتقالية هما حجر الزاوية لضمان عدم تكرار فصول العنف. فلا يمكن طي صفحة الحرب دون محاسبة من أمروا بالقصف الروسي وقتلوا الأبرياء، ولا يمكن بناء مستقبل سلمي في ظل وجود ضباط مجرمين يختبئون تحت المظلة الروسية دون مساءلة.

مع بداية مرحلة جديدة بعد سقوط النظام، يبقى الأمل معقودًا على أن يتوحد السوريون في رفضهم للنفوذ الروسي ولأي عودة للاستبداد، وأن يصرّوا على بناء دولة قانون ومواطنة تضمن كرامة الجميع. عندها فقط يمكن القول إن تضحيات سنوات الصراع الدامية لم تذهب سدى.